لم تعد الأيام كما كانت ولا الأحزان، صدق علم النفس والله، فنظرًا لكثرة الموتى صرنا نستقبل خبر الموت كأنه تحية عابرة من رجل خجول فيما أنت تعدو للحاق بقطار بدأ في التحرك.. لكن.
جاء غياب سعيد الكفراوي (السبت 14 من نوفمبر لعام 2020) مدمرًا لقاعدة التجاهل ابن الاعتياد، ومكذبًا لعلم النفس والفلسفة؛ فقد سيطرت حالة من الحزن على كثيرين من المبدعين والقراء؛ وفي محاولة من المشهد لمعرفة سبب هذه الصدمة، قمنا باستطلاع آراء عدد من الكتاب الذين تحدثوا في إطار سؤالنا المركزي: (برحيل سعيد الكفراوي فقد الأدب المصري كاتبًا مميزا وإنسانًا عظيمًا اكتب عن شعورك حين سمعت الخبر،موقفًا حدث لك معه،قصة من قصصه أثرت فيك).
واعتمد اختيار المشاركين على محورين أساسيين هما المعاصرون (جار النبي الحلو والسيد نجم وفرج مجاهد ومحمد سعيد شحاتة) والأبناء (مصطفى الشيمي، وأميرة بدوي).. فيما جاء ما كتبه الأكاديمي محمد الشحات معبرا عن تجربة الكفراوي في دقة وموضوعية.
- أحزان الرفيق
يقول الرفيق الملازم رغم المسافات القاص الكبير جار النبي الحلو: "عندما عرفت خبر وفاة "سعيد الكفراوى"ظللت أبكي، والحزن يعصرني، وقفت بجواري ابنتي تربت عليَّ وترجوني الكف عن البكاء، أول اتصال صحفى معي حول الوفاة فتحت الموبايل بكيت ولم أستطع الرد. وحياتى مع "سعيد" كلها موقف واحد من المحبة منذ أول لحظة رأيته فى 1965 مشاركة فى الحزن والفرح.كل قصص "سعيد"المتميزة بعالمه الخاص لها توهج،لكن قصة "كوتسيكا" أتذكرها وتعجبنى، عن الرجل الذى حيره معنى الاسم، وعاش يبحث عن معناه، أيضا قصة "مدينة الموت الجميل" حكاية السيدة التى تبحث عن مدينة الموت الجميل حيث البحر والفتاة ذات الفستان الأخضر.
(2) حاضرًا لا يغيب
ويقول الكاتب المعروف السيد نجم: "كنت أعلم بمرضه وأنه فى الفترة الأخيرة، خصوصا بعد رحيل زوجته يشكو أعراضا مرضية جعلته يحتجب الحياة الثقافية والنشاط الذي تميز به فى بعض الأماكن التي عُرِفت به وعرف بها.. وأظن أنها شكوى الشعور بالوحدة لفراق الحبيبة وونيس الحياة التي بلغت أكثر من الخمسين سنة تقريبا.. ومع ذلك لم أشعر بابتعاده هذا ولا أدري لماذا؟ سعيد الكفراوي له حضور وجداني أكثر من الحضور من كونه من كتاب القصة الماهرين.. قد تختلف معه يوما ومع ذلك لا تستطيع أن تبعده عن دائرة اهتمامك.. لأنه نقي السريرة واضح الرؤى والرأى.. وأعيش هذه الحالة حتى اليوم.. حتى أننى أظن لو ذهبت ﺇلى الاتيليه سوف أقابله هناك بصوته وحكاياته
عن الموقف الذي حدث معه: "منذ عامين ذهبت لإدارة ندوة حول أدب الطفل.. وعند دخولي ﺇلى الحديقة وجدته ضمن الجالسين في الكافيتيريا.. وما ان بدأت الندوة حتى كان فى الصف الأول من الحضور، يشارك ويبتسم ويحكي.. وما إن انتهت الندوة وهبطت من المنصة توجهت نحوه وتوجه نحوي وابتسمنا وتصافحنا.. ولم نتحدث حول الحوار الخلافي الذي دار بيننا فى معرض الكتاب السابق للقاء"
وعن أعماله التي تأثر بها: " لم أجد اسما لعمل يحضرني ويقفز فورا.. أى قصة لسعيد الكفراوي وأكرر أي قصة له فيها روحه وخصوصيته وهو الأمر أو السمة الباقية من الأعمال الفنية الجيدة عموما.. كلها ترسم من غيطان وحواري القرية.. وان لم يكن في مكان القصة فهو في شخصياتها.. أي في مجموعة القيم والأعراف وربما العادات والتقاليد التي تتبادل بين الشخصيات.. وان قرأت فى مكان من المدينة فهو المقهى والأحياء الشعبية غالبا.. وهذا ما تبقى في وجدانى وما فارقني عن مجمل أعمال الكفراوي".
(3) سارق العشق
أما الناقد والشاعر المصري محمد سعيد شحاتة فيقول: "حين سمعت خبر وفاة سعيد الكفراوي شعرت بحزن شديد لرحيله؛ فقد فقدت الساحة الإبداعية بعامة، والقصة القصيرة بصفة خاصة واحدًا من عشاقها الأوفياء الذي وهبوا حياتهم لها، فقد كان عاشقًا صوفيا في محرابها، ورغم أن معظم جيله، وغيره من الكتاب تحولوا إلى كتابة الرواية وبرعوا فيها، فإنه ظل وفيا للقصة القصيرة ليقدم بذلك نموذجا حيا ورائعا لهذا الفن، وأنه قادر على التعبير عن الحياة بكل تناقضاتها القيمية والفكرية وتضارب انحيازاتها الجمالية، وشعرت أن ركنا ركينا للقصة القصيرة قد سقط. وقد التقيت سعيد الكفراوي مرتين فقط في منتصف التسعينات قبل سفري إلى الإمارات وحين كنت أستمع إليه كنت أشعر فيه أن الأدب المصري بخير، ورغم أنني كنت أعشق كتابات يوسف جوهر وبخاصة عندما تحدث عن الانفتاح وانعدام القيم ، ولكنني عندما قرأت سعيد الكفراوي استشعرت أنه سينازع يوسف جوهر في مكانته وفعلا نجح في انتزاع مكانة يوسف جوهر عندي وفاقها بكثير، وكثير من كتاباته تركت أثرا بالغا في نفسي، منها أيام الأنتيكة وزبيدة والوحش ومدينة الموت الجميل، وستر العورة،ومجرى العيون،وسدرة المنتهى،ودوائر من حنين. وكلها كتابات متقنة وتحتاج إلى دراسات عميقة تقف على جوانب الإبداع فيها.
(4) رجل ضد النسيان
ويقول القاص والناقد فرج مجاهد عبد الوهاب: " مرات قليلة التي تقابلت فيها مع المبدع المتفرد، أذكر منها لقاء في أحد مؤتمرات هيئة قصور الثقافة والآخر في انتخابات اتحاد الكتاب في الزمالك وهناك جلسنا على مقهى في شارع 26 يوليو، ودارت أحاديث حول فن القصة و بعض الأدباء من كتاب القصة والرواية على وجه الخصوص وخصوصا أبناء جيله، ثم دعاني لزيارته في المنزل "في أي وقت تنزل القاهرة" ووصف لي المكان والشارع في منطقة المقطم.
عن قصصه التي أثرت بي فقد كنت أتابع مجلة إبداع في عهد الناقد الكبير الراحل الدكتور عبد القادر القط وكانت تنشر من آن لآخر قصص قصيرة للكفراوي وكانت تفتن القارئ لعوالم الريف ولازلت أذكر قصته الفريدة "زبيدة والوحش" وبطل قصصه الصبي عبد المولى، ولا أعتقد أن الذاكرة الأدبية والتاريخ الثقافي لفن السرد والحكي سينسيان كاتبًا كبيرًا في قيمة سعيد الكفراوي وقامته.. صاحب "كشك الموسيقا" "دوائر من حنين"، "أيام الأنتيكا"، "حكايات عن ناس طيبين"، "يا قلب من يشتريك" و"مجرى العيون " و "ستر العورة" ...وغيرها من الأعمال القصصية الهامة.
(5) صاحب صندوق العجائب
أما مصطفى الشيمي السارد الشاب الذي صار من علامات جيله فيقول: "شعرت بالكآبة، وأعرف أن هذا الشعور أكثر قتامة بالنسبة لآخرين من مجايليه من الكتاب والأصدقاء. هناك من يحملون له ذكريات أكثر مما أحمل. فلم أقابله إلا ثلاث مرات، المرة الأولى كان عمري عشرين عامًا وفي الثانية كان عمري سبع وعشرون. وفي المرتين تصافحنا فقط، دون كلمة. عاتبت نفسي بعدها على ذلك. كنت أحترم الرجل كثيرًا، وأعرف أنه معطاء، لم يهدأ، ولم يتوان عن الفعل الثقافي رغم كبر سنه. لسوء الحظ أن هذه الشعلة أجبرها الموت على الانطفاء، لكنني أعرف أن الموت سيكون كما رآه، جميلًا.
المرة الثالثة التي التقينا فيها، والوحيدة التي تكلمنا معًا، كانت بقعدة الجمعة بمقهى البستان. قدمني الشاعر الكبير عبد المنعم رمضان له، وربما قال كلمة طيبة عني، فسألني إن كنت أكتب القصة أم الرواية. أجبت بأنني أكتب الجنسين، فهز رأسه، اندفعت قائلا "تشرفت بأنك قدمتني للثقافة مرتين". نظر إليها متعجبًا، كأنه أراد أن يقول "أنا لا أعرفك!" تابعت "كنتَ في لجنة تحكيم جائزة كتاب اليوم وقد وصلت إلى القائمة القصيرة فيها، وكنت في لجنة تحكيم جائزة أخبار الأدب، وفزت في تلك الدورة". ابتسم لي ابتسامة هادئة وهز رأسه، فقط. وأنا صمت أيضًا. لم أخبره بأنني أقدره كثيرًا، وأن الوصول إلى جائزة كتاب اليوم، في هذا العمر الصغير، رغم عدم الفوز، كانت دفعة كبيرة بأكثر مما يتخيل. لم تكن مجرد جائزة. كانت شهادة الرجل الذي لا يعرفني: هي الجائزة، بالطبع برفقة الأستاذين الراحلين د.سيد البحراوي، أ.فؤاد قنديل.
وعن القصة التي تأثر بها: "ليست قصة واحدة، أتصور أن مجموعة مدينة الموت الجميل، بما تحمل من تقنية الأحلام وألعاب الظل، الآتية من تواهيم للذاكرة، كانت واحدة من المجموعات المفضلة التي قرأتها في صغري. وربما تظل قصة صندوق الدنيا واحدة من القصص التي ظلت عالقة في رأسي، بخاصة أنني كنت مفتونًا بحكايات هذا الصندوق في طفولتي، ولم أره يومًا، وسحرتني القصة بسطوة الخيال: البوابة السحرية التي يطل منها المرء إلى غيب آخر وأزمان أخرى".
(6) حامل القرية للعالم
فيما تقول أميرة بدوي القاصة والمترجمة الشابة التي أثارت الانتباه بمجموعتها: "ست زوايا للصلاة": " شعرت بالحزن حين قرأت الخبر، لطالما أردت الذهاب إلى "قعدة الجمعة" في مقهى البستان، لمقابلة الكاتب الكبير وإهدائه نسخة من مجموعتي القصصية الأولى. لكنها ظلت دائما خطة مؤجلة. يأتي الموت، ليجعل هذه الخطة مؤجلة إلى الأبد. أعتقد أن الموت حرمنا من كاتب كبير، ومن إنسان أجمل.
ليست لي مواقف شخصية مع الكاتب سعيد الكفراوي. رأيته مرة واحدة في حفل توزيع جائزة أخبار الأدب في دار الأوبرا، ومنعني خجلي الشديد من الذهاب إليه ومصافحته، والتعرف عليه، عن قرب.
علاقتي مع سعيد الكفراوي، كانت علاقة القارئ بالكاتب، وبخاصة إذا كانت عوالم الكاتب يعيش فيها القارئ في الواقع. سعيد الكفراوي فلاح مثلي، ابن مخلص للقرية. كان يرى القرية -على عكس العديد من الأدباء الآخرين- فضاءً مفتوحًا على العالم والأسئلة. أنا أيضًا ابنة هذه القرية، حيث تمتزج الأسطورة بالواقع، وتحدده أيضًا، في كتابة سعيد الكفراوي وكتابتي. ربما لهذا أردت لقاءه. وإن اختلفنا في نظرتنا للموت. ربما، أردت أن أسأله: كيف يكون الموت جميلًا؟ الموت هاجسي المفزع، والمنجل المعلق فوق رأسي، وبينما أراه فناءً كان يراه بعثًا. ولا أعتقد أن هناك قصة واحدة يمكنني الوقوف عندها، بل كل مشروع الكفراوي سأتوقف عنده كثيرًا.
(7) المقيم الحارث
وقد استأذنت من الناقد المعروف محمد الشحات في نشر ما كتبه على حسابه بالفيسبوك؛ لأنه يجيب دون سؤال عن قضيتنا هنا: لماذا كان موت الكفراوي صدمة كبيرة؟ ويعنون الشحات مقاله بـ: " بورتريه قصير لسعيد الكفراوي..قاصّ ليس من زماننا
يمثّل سعيد الكفراوي (1942-2020) واحدًا من مجموعة الكُتّاب المصريين الذي قَدِموا من مدينة المحلة الكبرى إلى القاهرة في فترة باكرة من سبعينيات القرن الماضي؛ جنبًا إلى جنب جابر عصفور ونصر حامد أبو زيد ومحمد المنسي قنديل وجار النبي الحلو ومحمد صالح ومحمد فريد أبو سعدة وآخرين. وعلى الرغم من تعدّدد المواهب التي مارسها كل من هؤلاء في مدينة القاهرة، سواء في الكتابة الإبداعية أو الكتابة النقدية أو الفكرية أو ممارسة العمل الثقافي، فإن سعيد الكفراوي لم يبرح عاكفا على أرض القصة القصيرة يحرث فيها هنا، ويبذر فيها من روحه وخياله هناك، كأنه قد تزوَّج منها زواجًا مسيحيًا هو أقرب إلى سيمياء الرهبنة، فلم يغادرها طوال حياته حتى اشتُهر بين الكُتّاب المصريين والعرب بأنه "راهب القصة القصيرة الذي يعيش زمن الرواية".
وعلى الرغم من حرص الكفراوي على لقاءات نجيب محفوظ المتتالية في مقهى ريش بوسط القاهرة منذ قدومه إليها، فضلا عن مجايلته لأصدقاء روائيين كبار من أمثال الغيطاني وبهاء طاهر والبساطي وإبراهيم عبد المجيد وغيرهم، فلم يتزحزح الكاتب عن موقفه من الاكتفاء برؤية العالم عبر رواة قصصه القصيرة التي أجاد فنون سرديّتها وجعل من مصائر شخصياته المكثّفة أرواحًا قادرة على تمثيل العالم المعقّد متسارع الأحداث في مشاهد سردية بالغة التكثيف والدلالة، مشاهد لا تخلو من فلسفة هي أقرب إلى روح المتصوّفة. هكذا جاءت قصص الكفراوي منذ مجموعته "مدينة الموت" (1985) و"ستر العورة" (1989)، مرورا بـ"سدرة المنتهى" (1990) و"مجرى العيون" (1994) و"دوائر من حنين" (1997)، ثم انتقالًا إلى قصص تنزع منزعًا سرديًا طويل النفس متشابك التفاصيل كما في "كُشك الموسيقى" و"يا قلب مين يشتريك" و"البغدادية"، وغيرها.
كان الكفراوي يمتلك مدوّنة كبرى من الحكايات الشفاهية التي كان يُجيد سردها بنبرته الخاصة وصوته الدافئ الذي ينسال على مسامع أصدقائه كلما التقى بأحدهم هنا أو هناك. كما كان له معجبون كثر من الدول العربية (وبخاصة من دولة المغرب العربي الشقيق الذي كاد الكفراوي أن يكون "صاحب مقام" هناك). رحم الله سعيد الكفراوي الذي عُرِف بإخلاصه الشديد لعالم القصة القصيرة الذي ارتبط لديه بسرديّات المهمّشين والبسطاء والمطحونين الباحثين عن العدل الاجتماعي والسلام النفسي والدفء الإنساني.
---------------------
تقرير - أحمد سراج
من المشهد الأسبوعي